بقلم: الدكتور/ فلوراج محمود راضى
باحث أول بمعهد بحوث الصحة الحيوانية ، معمل فرعى شبين الكوم
نهج الصحة الواحدة هو نهج متكامل وموحد يهدف إلى تحقيق توازن مستدام، والوصول إلى درجة مثلى من الصحة لدى الإنسان والحيوان والنبات والنظم الايكولوجية، ويقر هذا النهج بان صحة كل من البشر والحيوانات المنزلية والبرية والنباتات والبيئة الأوسع نطاقا مترابطة و متكاملة على نحو وثيق.
وتشتمل المجالات الرئيسية التي يتناولها نهج الصحة الواحدة على: مكافحة الأمراض الحيوانية المصدر المستجدة والمعاودة الظهور؛ ومكافحة الأمراض الحيوانية المصدر المتوطنة، وأمراض المناطق المدارية المهملة، والأمراض المنقولة عن طريق النواقل؛ وتعزيز سلامة الأغذية؛ والحد من مقاومة مضادات الميكروبات؛ وإدماج البيئة تدريجيا في برنامج عمل الصحة الواحدة.
وينبغي أن يرتكز كل مجال من مجالات العمل تلك على ربط قدرات الصحة الواحدة بجهود تعزيز النظم الصحية.
وقد قامت أطراف التعاون الرباعي– منظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة الصحة العالمية، والمنظمة العالمية لصحة الحيوان – بإطلاق خطة عمل مشتركة جديدة (2022-2026) تعنى بشأن تنفيذ نهج الصحة الواحدة في إقليم شرق المتوسط، مع التركيز على الأمراض الحيوانية المصدر ومقاومة مضادات الميكروبات وسلامة الأغذية، باعتبارها التهديدات ذات الأولوية التي يعنى بها نهج الصحة الواحدة.
وقد تزايدت خلال العقود الاخيرة التهديدات الصحية الناجمة عن تفاعل الإنسان مع الحيوان والبيئة، مع ما يترتب على ذلك من آثار ضارة.
ومما تشتمل عليه تلك التهديدات انتشار الأمراض الحيوانية المصدر. وتشكل الامراض الحيوانية المصدر نحو 60% من الامراض المعدية الحالية التي تصيب البشر، و70% من الامراض المعدية الناشئة تعود الى أصول حيوانية ومنها مرض فيروس الايبولا وفيروس العوز المناعي البشرى وانفلونزا الطيور وغيرها من انواع الانفلونزا الحيوانية المصدر. ولا تزال الامراض الحيوانية المصدر المتوطنة مثل الجمرة الخبيثة وداء البروسيلات تسبب الاعتلال والوفاه في الانسان والحيوان مما يكبد البلدان خسائر اقتصادية.
ويعد ظهور فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية مثالا على المخاطر التي يواجهها الإقليم جراء انتشار الامراض الحيوانية المستجدة والمعدية، وتشير البيانات الى ان جائحة كورونا 19 نشأت في سوق مدينة ووهان في الصين حيث تباع مختلف أنواع الحيوانات البرية بغرض الاكل، انتقل الفيروس من الخفاش من نوعية “حدوة الفرس” إلى حيوان آخر ومنه إلى الأنسان، الأمر الذي تبعه انتقالا سريعا ما بين البشر. وقد وثقت آثار الجائحة الكبيرة على الصحة العالمية، توثيقا جيدا وكذلك الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غير المسبوقة التي خلفتها.
وتشير التقديرات إلى أن الجائحة تسببت في حدوث 14.9 مليون وفاة، وكبدت الاقتصاد العالمي 12 تريليون دولار.
وبالرغم من التقدم الجماعي المحرز في الاستجابة لهذه الجائحة، فقد ظلت حتى يوليو 2022 م تمثل طارئة صحية عامة تسبب قلقا دوليا، وتعد فاشية جدري القردة المستمرة في العديد من البلدان المعروفة بأن المرض غير متوطن بها مثالا اخر على المخاطر العالمية التي تشكلها الأمراض الحيوانية المصدر، وأعلن عن كونها طارئة صحية عامة تثير قلقا دوليا في 23 يوليو/ 2022م.
وتعد إنفلونزا الطيور وغيرها من أنواع الإنفلونزا الحيوانية المصدر من الامراض التي يستحيل القضاء عليها مع وجود مستودع صامت واسع النطاق في الطيور المائية، حيث تعد الطيور المائية والبرية مخازن طبيعية لفيروس انفلونزا الطيور وذلك نظرا لقابليتها للإصابة بأكثر من عترة من الفيروس في نفس الوقت وافرازها للفيروس لمدة طويلة في الزرق والافرازات الأخرى، وسيستمر حدوث العدوى بالإنفلونزا الحيوانية المصدر في صفوف البشر، وقد يتسبب ظهور سلالة مختلفة منها في حدوث جائحة إنفلونزا.
وعلى الصعيد العالمي ينتشر داء البروسيلات، وهو مرض تبلغ عنه معظم البلدان.
وهو مرض حيواني المصدر وواسع الانتشار، وله عواقب وخيمة على الصحة العامة.
وتوجد البروسيلا المالطية والبروسيلا الخنزيرية على قائمة المواد البيولوجية المحتمل استخدامها في الحرب البيولوجية والإرهاب البيولوجي.
وتسلط هذه التهديدات ومثيلاتها من التهديدات الصحية المستجدة والمعاودة الظهور الضوء على الصًلات العميقة بين الصحة والبيئة.
وهناك احتياج واضح لزيادة التعاون من أجل الوقوف على التهديدات الصحية ِالتي يشكلها تفاعل الإنسان مع الحيوان والبيئة، وترتيب تلك التهديدات من حيث أولويتها، والتصدي لها.
ويقدم نهج الصحة الواحدة نهجا تعاونيا لتحقيق التوافق بين التخصصات العلمية ورسم السياسات والمعارف المحلية، وذلك من خلال مشاركة أصحاب المصلحة المعنيين للعمل معا على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية للوقاية من التهديدات التي تواجه نهج الصحة الواحدة من المنبع والتأهب له والكشف عنها واستقصائها والاستجابة لها في الوقت المناسب.
وقد سعت بعض البلدان إلى اتباع نهج الصحة الواحدة في تصديه للأمراض الحيوانية المصدر المستجدة والتي تعاود الظهور وعلى سبيل المثال فقد نجحت مصر في الحد من مخاطر فيروس إنفلونزا الطيور من النمط1N5H، وكذلك مخاطر فيروسات الإنفلونزا الحيوانية المصدر الأخرى بتطبيق نهج الصحة الواحدة، كذلك استراتيجية الصحة الواحدة التي وضعتها ونفذتها المملكة العربية السعودية، ونجحت في الحد من آثار فاشيات حمى الوادي المتصدع.
وقد افصحت وزارة الصحة والسكان المصرية عن أهم 6 أهداف للاستراتيجية الإقليمية لتنفيذ مفهوم “الصحة الواحدة”، والتي تهدف لتعزيز التنسيق بين مختلف القطاعات ذات الصلة، وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر، بالإضافة إلى تعزيز خطط التأهب والاستجابة الخاصة بالتهديدات وخطط الطوارئ في البلدان. وكذلك تهدف لتعزيز تبادل المعلومات، وتعزيز ترسيخ الحوكمة والقيادة لصنع سياسات سليمة والتخطيط الاستراتيجي، بالإضافة إلى تطوير قوة عاملة ماهرة من مختلف التخصصات لتنفيذ الأنشطة المتعلقة بالصحة الواحدة على كل المستويات الإدارية في الدول.
ويعد نهج “الصحة الواحدة” استراتيجية رئيسية للوقاية الفعالة من الأمراض المعدية الناشئة ومكافحتها.